.د محمد زكي محمد خضرالمؤتمر العالمي الرابع
نحو فهم عصري للقرآن الكريم
استانبول – تركيا
20-22/9/1998
الخلاصة
يقول الإمام النورسي (المكتوبات 247/2) ” بيَّن السابقون من أهل الحقيقة ما في كلمات القرآن من الوجوه العديدة والعلاقات والأواصر والإرتباطات التي تربطها مع سائر جمله وآياته ولا سيما علماء علم حروف القرآن ، فقد أوغلوا كثيرا في هذا الموضوع وأثبتوا بدلائل : أن في كل حرف من القرآن الكريم أسرارا دقيقة تسع صحيفة كاملة من البيان والتوضيح”
لقد قام عدد من الباحثين المحدثين بمحاولة الغوص في العلاقات الرقمية والرياضية المتعلقة بحروف القرآن وقد أصاب بعضهم في الوصول إلى بعض العلاقات الواضحة والدقيقة في هذا الصدد. وقد حاول آخرون البحث عن علاقات معقدة بعد حسابات لا تخلو من التمحل . ولذلك سنحاول في هذا البحث تبيان الأسس التي ينبغي مراعاتها في إستنباط الإعجاز العددي في القرآن والتي قد يمتد بعضها عند إستنباط الإعجاز العلمي في القرآن بصورة عامة. وفيما يأتي أهم هذه الأمور :
مراعاة اللغة العربية ومفرداتها وأساليبها وما يفهمه العربي من القرآن الكريم والحروف العربية وخاصة إذا ما كان البحث في نطاق اللفظ فيجب أن يأخذ بنظر الإعتبار قواعد اللفظ والقراءة والترتيل.
عندما يكون الإستنباط معتمدا على رسم الحروف العربية في الكلمات القرآنية ينبغي مراعاة الرسم القرآني المتوارث عن المصاحف التي كتبت في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه .
وإذا ما إستنبط الباحث ظاهرة ما فيجب أن يكون إستنباطه موافقا للطرق الإحصائية العلمية الحديثة دون تمحل أو تدليس . وعندما يتم إكتشاف ظاهرة ما فيجب فحصها علميا والتأكد من أنها مقبولة إحصائيا ورياضيا.
كما يجب التأكد من الإعتماد على المتواتر فقط من القراءات القرآنية وخاصة فيما يتعلق بأعداد الآيات والكلمات ويجب أن تكون الظاهرة مستندة إلى ما اتفق عليه وليس على أمور خلافية قد يشكك فيها من لا يرى صحة ذلك وإذا كان الأمر متعلقا بأعداد دقيقة فيجب أن لا ينطبق ذلك في قراءة دون أخرى .
إن دراسة الإعجاز الرقمي في القرآن يجب أن تميز بين الظاهرة والإعجاز. فالظاهرة هي خاصية يستنبطها الباحث عند دراسته للقرآن ولكنها يمكن أن يوجد ما يماثلها في غيره من الكتب التي يؤلفها البشر. أما الإعجاز فهو يتعلق بالظواهر القرآنية التي لا يمكن أن يقوم بها البشر في أثناء تأليفه للكتب .
1- مقدمة:
عرف العلماء منذ القرن الثاني للهجرة النبوية الشريفة تآليف عديدة في الإعجاز البياني للقرآن الكريم. بل كاد أن يكون مفهوم إعجاز القرآن هو الإعجاز اللغوي فحسب. فالتحدي الذي ورد في القرآن بالإتيان بعشر سور من مثله أو بسورة مثله كان على مر القرون مفهومه من حيث اللغة والبيان والمعنى ليس إلا. وقد تعرض موضوع الإعجاز اللغوي لدراسات معمقة وأدلى العلماء بدلائهم في تبيان أوجه الإعجاز في كل سورة وآية بل لفظة من ألفاظ القرآن حتى عدَّ بعضهم أكثر من عشرين لونا من ألوان البلاغة في آية واحدة مثل قوله تعالى في سورة هود ” وقيل ياأرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين” فتحدثوا عن بلاغته وفصاحته وبيانه وبديعه وتأليفه وأسلوبه ومطالعه ومقاطعه وفصله ووصله وترغيبه وترهيبه وأمره ونهيه وتسلسل التشريع فيه وأحكامه بل كل لفظة جاء بها وما أحاطت به من معان ومقاصد. وسيظل الناس يزيدون ذلك تمحيصا وبيانا كالبحر دون أن يصلوا إلى غوره.
وقد تضمن القرآن أخبارا لما سلف من حوادث خلت وحقائق سابقة كما تضمن إخبارا بوقائع تقع بعد نزوله وقد وقع فعلا منها ما بينه العلماء في مواضعه. فهذا النوع من الإعجاز يقع في أي زمن يشاء الله تبيانه للناس يفهمه من يفهمه وينكره من ينكره. ومثال ذلك مطلع سورة الروم ” الم . غلبت الروم . في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون . في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون . بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم ” حيث نزلت هذه الآيات من سورة الروم والرسول صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة بعدة أعوام ولم يتحقق نصر الروم إلا في السنة الثانية للهجرة وجاء الخبر بذلك يوم انتصار المسلمين في معركة بدر وفرح المؤمنون يومئذ بنصر الله.
أما الإعجاز العلمي فلم يكشف عنه النقاب سوى في العصر الحديث وقد تحدث فيه الكثير من المؤلفين المحدثين وأصاب كثير منهم في تفسير بعض آيات من القرآن الكريم وأخطأ بعض في تأويلات أخرى. وقد شملت الدراسات التي تمت في علوم التشريح والأحياء والنبات والصخور والجبال والفضاء والمياه وغيرها وقد أدلى الكثيرون بدلائهم في مجالات تخصصاتهم ما يلفت الأنظار ويبهر العقول . إذ كيف يمكن لرجل أمي قبل ألف وأربعمائة عام أن يتحدث عن أمور علمية دقيقة لم يكشفها العلم الحديث سوى في السنوات الأخيرة . وقد هدى الله بهذا البيان علماء متخصصين في علوم شتى للإسلام بعد أن تبين لهم الحق من خلال هذا النوع من الإعجاز. ولغرض تحديد مقومات الإعجاز العلمي في القرآن فقد أوجز بعض العلماء(1) شروط البحث في الإعجاز العلمي في القرآن بما يأتي: موافقة اللغة موافقة تامة بحيث يطابق المعنى المفسر المعنى اللغوي وعدم مخالفة صحيح المأثور عن الرسول عليه وآله الصلاة والسلام أو ما له حكم المرفوع و موافقة سياق الآيات بحيث لا يكون التفسير نافرا عن السياق. كما يجب التحذير من أن يتعرض التفسير العلمي لأخبار وشؤون المعجزات (إنكارها) و أن لا يكون التفسير حسب نظرية وهمية متداعية بل لا بد أن يكون حسب الحقائق العلمية الثابتة. وهناك بعض العلماء من يفضل إستعمال مصطلح التفسير العلمي أو دلائل النبوة بدل الكلام عن الإعجاز العلمي في القرآن (2)
أما في مجال العد والأرقام والإحصاء فقد قام المسلمون منذ عصر الحجاج بن يوسف الثقفي بإحصاء حروف القرآن وكلماته وسوره وأماكن الوقف فيه وأماكن الوصل وسجداته وأعشاره وأحزابه وغير ذلك مما أمكنهم واسترعى أنظارهم . وكان هدفهم من ذلك تثبيت الواقع خوفا من زيادة أو نقصان أوخطأ أو سهو من النساخ والكتبة وكان ذلك مما هيأه الله من وسائل لحفظ كتابه .ويشكك السخاوي (المتوفي سنة 643 هجرية) في فائدة ذلك بقوله : “لا أعلم لعد الكلمات والحروف من فائدة ، لأن ذلك إن أفاد فإنما يفيد في كتاب يمكن فيه الزيادة والنقصان والقرآن لا يمكن فيه ذلك” . (3)
وعلى الرغم من ذلك فلم يغلق الأولون أبواب التحري والبحث فيه فيقول الطوسي في كتاب اللمع صفحة 106 : ” إن تحت كل حرف من كتاب الله كثيرا من الفهم على مقدار ما قسم لهم من ذلك ” واستدل على ذلك بمثل قوله تعالى ” وإن من شيئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم” الحجر/21 (4)
ويقول الفخر الرازي :”من تأمل في لطائف نظم السور وبديع ترتيبها علم أن القرآن الكريم كما أنه معجز بحسب فصاحة ألفاظه وشرف معانيه فهو أيضا بسبب ترتيب ونظم آياته “(5)
يقول الإمام النورسي (6) ” بيَّن السابقون من أهل الحقيقة ما في كلمات القرآن من الوجوه العديدة والعلاقات والأواصر والإرتباطات التي تربطها مع سائر جمله وآياته ولا سيما علماء علم حروف القرآن ، فقد أوغلوا كثيرا في هذا الموضوع وأثبتوا بدلائل : أن في كل حرف من القرآن الكريم أسرارا دقيقة تسع صحيفة كاملة من البيان والتوضيح”
فالآية الكريمة من سورة الكهف :”قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا” (الكهف 109) ، تبين رمزا مدى أهمية الحروف القرآنية ومدى قيمتها ومزاياها وكونها نابضة بالحياة فتقول بمعناها الإشاري أن القرآن الكريم الذي هو كلام الله حي يتدفق بالحيوية رفيع سام الى حد لا ينفد عدد الأسماع التي تنصت اليه ولا عدد الكلمات المقدسة التي تدخل تلك الأسماع ، لا تنفد تلك الأعداد حتى لو كانت البحار مدادا والملائكة كتابا لها (7)